سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق
(العنكبوت - 20).
كلمات هذه الآية واضحة لا غموض فيها، ومعناها لا يستعصي على أي ناطق باللغة العربية، وحتى الأطفال يمكنهم أن يفهموا المعنى دون مشقة. ولكن مع ذلك لم يخطر في بال الناس ماذا سيتكشف من هذا المعنى ومن مضمون هذه الآية، ونحن لا قدرة لنا على الإحاطة بهذا المحتوى، ولكن تبين لنا وكُشف لنا ما لم يخطر على بال الأولين، وسيرى اللاحقون ما لم يتيسر لنا أن نراه نحن... تحتوي الآية الكريمة على منهج محدد للبحث يشمل جوانب العالم المادية منها وغير المادية، الجواهر والأعراض حسب تعبير الأقدمين. فالموضوع يشمل كل الكائنات من الذرة وما دونها في الصغر إلى المجرة، بل وعموم الكون. من المواد العضوية الأولى إلى الإنسان الذي هو في أحسن تقويم عضوياً وفكرياً واجتماعياً.. ومن الأفكار الأولية إلى أعقدها..
وتتضمن الآية كل شيء يمكن أن يدرسه الإنسان، فالآية موضوع لكل علم، وعى مقتضى هذه الآية ينبغي أن يُذكر في مقدمة كل موضوع كيف بدأ خلقه، حتى ما يتعلق بطريقة الإيمان بالله: كيف بدأ الإنسان يدرك معنى الألوهية.. إذن كل موضوع له بدء خلق بالنسبة لدخوله إلى إدراك الإنسان..
وبمقتضى ما تطلبه الآية ينبغي أن نعيد النظر في كل ما نراه من حيث كيف بدأ خلقه؟
إن النظر التقليدي كان يتصور أن الكون خُلق كما هو ابتداء، وإن تصور نوعاً من البدء والصيرورة فإن هذا التصور بعيد عن الواقع؛ لأن عيش الإنسان عمر الحضارات - خمسة آلاف السنة الماضية - لم يحدث في حياة الناس تغيراً يذكر في وسائل عيشهم، وهذا ما أوحى إليهم بأنهم خلقوا كما هم عليه، وأن ما هم عليه لم يكن نتيجة تقلب في الأرض آلاف السنين بل مئات الآلاف والملايين.
ولعل الخيال يساعدنا على تقريب الموضوع، وهذا المثل والخيال اقتبسه من الأستاذ مالك بن نبي - رحمه الله - في كتابه الافرسيوية: حيث تصور كائناً غريباً عن الأرض، لديه تفكير يشبه تفكيرنا في ناحية ويفارقه في ناحية أخرى، فهذا الكائن لو أتى إلى الأرض ولا يعرف من حياة البشر شيئاً ورأى الأطفال والكبار والشيوخ ولم يكن يعرف من تاريخهم وبدء خلقهم شيئاً، فلربما تصور أن البشر الكبار والصغار وُجدوا هكذا، وأن الكبار لم يكونوا صغاراً وأن الصغار لن يكبروا.
إن هذا المثل مع كل نواقصه قد يقرب إلينا أن رؤية لحظية منقطعة الصلة عن كيف بدأ الخلق تعطي صورة مشوهة للواقع، وحتى في كيفية التعامل معه، وحين نرى إنساناً لا نعرف تاريخه فإننا نتردد في كيفية السلوك الذي نتخذه إزاءه، فكلما عرفنا تاريخه تكيف موقفنا منه، وإن لنا من كل شخص مسلكاً وموقفاً خاصاً حسب معرفتنا بتاريخه.
وإذا زرت منطقة ما في فصل من فصول السنة فلا يمكن أن تتصور حال هذه المنطقة في بقية الفصول إلا إذا كانت لك معرفة بالفصول والتغيرات التي تحدث خلال سنة، وإن بعض المخلوقات لا تعرف من السنة إلا جزءاً منها فولادتها وموتها يكون في فصل واحد.
الخلق ينمو ويتقدم
والآن إذا أردنا أن نكيف تصورنا وفق قوله تعالى: (سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) فقد يحدث لنا تصور أن الخلق ليس من شأنه أنه خُلق وانتهى، بل إننا نحن نُخلق الآن والكون يُخلق كما كنا صغاراً، ولا نزال نُخلق خلقاً من بعد خلق، كذلك الكون لا يزال يُخلق لا أنه خُلِق وانتهى، وإنما هو الآن في بعض مراحل خلقه قد مرَّ بمراحل معينة ويعيش في مراحل أخرى وسيصير إلى مراحل تالية.
وكذلك لو تخيلنا الإنسان الفرد كيف بدأ خلقه خلية واحدة، ثم كيف نما وانتهى إلى أن صار كائناً حياً عاقلاً يسعى في مناكب الأرض، ومع أن خلاياه تتغير وتتبدل فهو كائن واحد باق. كذلك يمكن تصور الإنسانية ككائن واحد، أفراد البشر خلاياه يدخلون إليه ويخرجون كما تولد الخلايا في الفرد وتخرج منه، وإذا نظرنا إلى البشرية كمخلوق واحد فربما أمكننا تصوره في مرحلة ما في مرحلة شبه طفولية أو مراهقة. وربما لا يزال الآن في مقتبل العمر فهو لم يصل بالتأكيد إلى مرحلة الرشد المتوقع له فهو (لّما يقضِ ما أمره) (عبس / 23) وبهذا المعنى فسر إقبال قوله تعالى: (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) (لقمان / 28).
ومن المعاني التي تدل عليها الآية أيضاً: أن معرفة كيف بدأ الخلق، وفهم الأمور على هذا المستوى ينبه الإنسان إلى أن هذا الخلق قد ينمو ويتقدم ويتحسن؛ لأن من عرف كيف بدأ الخلق ضعيفاً وعاجزاً ثم نما نواً بطيئاً، وأن هذا النمو اقتضى دهوراً طويلة. فقد يقوده التأمل في بدء الخلق إلى التفكير في مصير الخلق، ليس مصيره في يوم النشور، بل مصيره الدنيوي أي نهاية هذا الخلق الذي عرفنا شيئاً من بدء خلقه. وهذا المعنى وإن كان غريباً عن الأجواء الثقافية التقليدية، إلا أن فهم آيات الله في الآفاق والنفس، وفهم شيء من كيف بدأ الخلق.. يطرح هذا الموضوع على بساط البحث والتفكير والتأمل، لأن من نظر إلى بدء الخلق سيتخيل مصيره إذا أدرك أن الخلق ينمو ويتقدم مستمراً، لا أنه خلقٌ غير قابل للنمو أو خُلق خلقاً معاقاً غير قابل للتجاوز. فإذا نظرنا إلى الآيات الواردة في هذا الموضوع - حسب ما يتسرب إلينا من النظر الكليل الضعيف الذي يشتهي أن يرى ما سيراه الذين يأتون من بعدنا من آيات الله في الآفاق والأنفس مما يشرح ويوضح في هذا الموضوع - سنرى أن الله لما استخلف آدم وذريته في الأرض وأعلن للملائكة هذا الموضوع، اعترضوا على هذا بقولهم: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) (البقرة / 30) فأجابهم رب العزة: (إني أعلم ما لا تعلمون) والله سبحانه وتعالى لم ينفِ هذه التهمة عن الإنسان، ولكن أعلمهم أن هناك شيئاً آخر عن الإنسان لا تعلمه الملائكة...
وإذا كان البشر لا يزالون على توقعات الملائكة إلى يومنا هذا، فإن ما علم الله في هذا الإنسان صار الآن يراود البشر الذين نظروا إلى كيفية بدء الإنسان: كيف يمكنهم تحقيق ذلك. وهكذا نرى أن آية استخلاف آدم تدل على أن هذا الذي علمه الله في شأن الإنسان هو في هذه الدنيا، وأن علم الله هذا سيتحقق، هذا العلم الذي لم يكن في إمكان الملائكة علمه كما لم يكن في إمكان البشر إدراكه حتى رأوا من آيات الله في الآفاق والأنفس ما تدل عليه وتشير إليه.
وكذلك قوله تعالى حين ذكر ما سخر للإنسان من الخيل والبغال والحمير لركوبها والتزين بها اتبع ذلك القول بقوله الكريم: (ويخلق ما لا تعلمون) (النحل / 8) أي يخلق ما لا تعلمون في هذا الموضوع بالذات وغيره من المواضيع أيضاً. ولقد رأينا نحن في القرون الأخيرة القليلة ما لم يره الذين سبقونا مما سخر الله للإنسان ومما خلق. وفهم قوله تعالى: (ويخلق ما لا تعلمون) مع التاريخ المشاهد الواقع يلقي الضوء على القول الكريم الآخر: (أعلم ما لا تعلمون)، والموضوعان متشابهان جداً في الإعراب والدلالة على أن الخلق يزيد، ويزيد إلى التحسن والتقدم، والزيادة في التسخير في موضوع وسائل النقل واضحة جداً، وإن كان لا يزال الأمر الآن كما كان مع ما خلق من الزيادة مما لا نعلم، يمكن أن يخلق ما لم نعلم أيضاً، وكذلك في موضوع الإفساد في الأرض وسفك الدماء فإن الله سيخلق وضعاً واقعياً كما خلق في وسائل النقل خلقاً واقعياً آخر حيث سَيَخلُقُ - جل جلاله - سلوكاً يقل فيه الفساد والسفك إن لم نقل سينعدم فيه الفساد والسفك.
النشأة الآخرة
وإن من لا يعرف جيداً كيف بدأ الخلق وبأي المراحل مرّ الإنسان وكيف نما وتقدم وتحسن، إن من لا يعرف ذلك لا يعرف معنى (ويخلق ما لا تعلمون) ولا معنى (إني أعلم ما لا تعلمون) ولا معنى (ويزيد في الخلق ما يشاء) ولا معنى (ثم أنشأناه خلقاً آخر) بينما الذي اكتسب هذا النظر من السير في الأرض والنظر من كيف بدأ الخلق، سيقرأ مرة أخرى قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) بنظرة جديدة، وخاصة حين يتابع قراءة هذه الآية (ثم الله ينشئ النشأة الآخرة. إن الله على كل شيء قدير) (العنكبوت / 20) فهذه النشأة الآخرة وإن كانت ثقافتنا القاصرة المحدودة تقصرها وتحدها بالنشأة الآخرة في يوم النشور، إلا أن ‘مكان أن يكون المعنى عاماً يشمل الدنيا والآخرة محتمل وارد، وخاصة حين نتذكر أن الآيات السابقة تدل على نمو وتحسن في الخلق والتسخير في الدنيا خاصة.
والخلاصة إن هذه الآية تنقل موضوع بحث معرفة كيف بدأ الخلق من آيات الكتاب إلى الآفاق والأنفس إلى السير في الأرض والنظر كيف بدأ الخلق. وللأجيال القادمة وللذين سيرون آيات الله في الآفاق والأنفس نترك مصير مثل هذه البحوث مع تمنياتنا لهم أن يحققوا قوله تعالى: (إني أعلم ما لا تعلمون).
ومما يدل على البطء الشديد في الحركة الإسلامية أني لم اطّلع إلى الآن على من تناول أو أشار إلى آية (سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)، مع أن مشكلة بدء الخلق من أول الأفكار التي صدمت الفكر الديني، وحتى الكتاب الذي ألفه في هذا الموضوع جمال الدين الأفغاني (الرد على الدهريين) يمكن أن يعتبر اتجاهاً إلى الوراء أكثر من أن يكون متطلعاً إلى الأمام، وعذره في ذلك أن كتبه في مطلع شبابه، ومن ذاك التاريخ إلى الآن لا نجد مَن جعل آية النظر إلى كيف بدأ الخلق منطلقاً لبحث هذه المشكلة التي يعانيها الطلاب والأساتذة في العالم الإسلامي قاطبة، وعلى الرغم من أن المشكلة ملحة والآية القرآنية ليست مثل الكتب المنسية فإن الفكرة المسيطرة تحول دون رؤية الأمور الواضحة التي تكاد تفقأ العين (وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) (يوسف / 105).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق